ملخص المقال
مقال يسرد محنة الإمام وكيع بن الجراح ضمن سلسلة ترويض المحن، مبينًا حياة الإمام وكيع وفضله، وكيف كانت محنته؟ وماذا نتعلم منها؟
من الأصول الثابتة عند أهل العلم عامَّةً وأئمَّتهم وكبارهم خاصَّة، أنَّهم لا يُحدِّثون الناس إلَّا بقدر ما تفهم عقولهم، وتستوعب مداركهم؛ لأنَّهم إذا تجاوزوا هذا الأصل وعمدوا إلى تحديث الناس بقدرٍ أكبر من عقولهم ومداركهم، كان ذلك سببًا مفضيًا لضلال بعضهم، فيكون بعض العلم والعلماء سببًا من حيث لا يشعرون إلى فتنة الناس، وعمدة هذا الأصل في الشرع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّ حقَّ العباد على الله عزَّ وجلَّ ألَّا يُعذِّبهم إذا لم يُشركوا به شيئًا، فقال معاذ: ألا أُبشِّر الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى يتكلوا". وهذا من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم، وخبرته بالناس؛ أنَّهم إذا سمعوا هذه البشارة ربَّما اتَّكل بعضهم عليها وترك العمل، ولم يُخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا قط إلَّا في مرض موته؛ إنَّما قاله خوفًا من إثمِ كتمِ العلم.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما يُنكرون؛ أتُحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله". وقد أخرجه البخاري تحت باب: من خصَّ بالعلم قومًا دون قومٍ كراهية ألَّا يفهموا. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت محدِّثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلَّا كان فتنةً لبعضهم". أخرجه مسلم في مقدِّمة كتابه. والعالم -خاصَّةً إذا كان إمامًا متبوعًا- إذا خالف هذا الأصل ولم يلتزم ربَّما تسبَّب في الكثير من الفتن والمحن، ولربَّما كانت المحن من نصيبه هو، فيكتوي بنارها، ويشنع عليه بسببها، وهو ما جرى بالضبط لصاحبنا.
التعريف به
هو الإمام المحدِّث، بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، العالم الجوَّال، والعابد المجتهد، راهب العراق، وزاهد المصرين [البصرة - الكوفة]، وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، محدِّث العراق وأحد أئمَّة الأثر المشهورين، وأستاذ الأئمَّة؛ الشافعى وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وُلد سنة 129هـ في بيت علمٍ ورياسةٍ واحتشام، وأبوه كان من أعيان الكوفة وزعمائها، وكان ممَّن يتعانى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجَّه ولده وكيعًا لطلب العلم وسماع الحديث منذ صباه.
فسمع من الأعمش وهشام بن عروة والأوزاعى وابن جريج وغيرهم، ثم انقطع إلى إمام الوقت وبركة الزمان سفيان الثوري، فحمل عنه علمه وسمع منه كلَّ مروياته، حتى لُقِّب براوية الثوري، وطاف البلاد وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحدٍ من معاصريه، حتى إنَّ أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلامٌ حدثٌ فيقول: يا رؤاسيُّ، تعال، أيُّ شيءٍ سمعت؟ فيقول: حدَّثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجَّب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسيُّ حتى يكون له شأن، حتى إنَّ سفيان نفسه على جلالة قدره وعظم مكانته في الأمَّة قد روى عنه الحديث، وصدقت فراسة سفيان رحمه الله؛ ذلك أنَّه لمـَّا مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه في مجلس تحديثه.
وكان وكيع بن الجراح آيةً من آيات الله عزَّ وجلَّ في الحفظ والإتقان؛ فلقد كان مطبوع الحفظ لا يسمع شيئًا إلَّا حفظه، ولا يحفظ شيئًا قط فينساه، أبهر الناس بقوَّة حفظه، وكان يستعين على ذلك بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو على خشرم عن دواءٍ يأخذه حتى يُقوِّي حفظه، فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جرَّبت مثله للحفظ.
وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح وإقبال الطلبة عليه وتصدُّره لمجلس تحديث الثوري، فإنَّه كان عابدًا، زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، لا يتركه أبدًا، يختم القرآن في الأسبوع الواحد عدَّة مرَّات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلًا بالأوراد والأذكار، لا يُضيع لحظةً من وقته هدرًا، يُقسِّم يومه على نفع نفسه والناس؛ فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث بكرةً إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف، فيقيل، ثم يُصلِّي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمَّع الناس لسقيا دوابِّهم، فيُعلِّمهم القرآن والفرائض وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده، فيُصلِّي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار ثم يدخل منزله، فيتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر.
ولقد عرض الرشيد منصب القضاء على وكيع عدَّة مرَّاتٍ فرفض بشدَّة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه الثوري؛ بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبَّس بشيءٍ من أمور السلطان؛ فلقد هجر أقرب أصدقائه -وهو حفص بن غياث- لمـَّا تولَّى منصب القضاء، وهكذا شأن العلماء الربانيِّين في كلِّ زمانٍ ومكان.
ثناء الناس عليه
يتبوَّأ الإمام الكبير وكيع بن الجراح مكانةً خاصَّةً ومميَّزةً في طبقات حفَّاظ الأمَّة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أنَّ العصر الذي كان يعيش فيه وكيع بن الجراح زاخرٌ بالكثير من الحفَّاظ والأئمَّة الأعلام، فإنَّ وكيع بن الجراح كان علمهم المقدَّم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، وهذه طائفةٌ من أقوالهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوعٍ وورع. هذا على الرغم من أنَّ الإمام أحمد قد شاهد الكبار مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان وأمثالهم، ولكن كان أحمد يُعظِّم وكيعًا ويُفخِّمه، وكان أحمد يُفضِّل وكيعًا على ابن مهدي ويزيد بن هارون.
قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذًا لا ينظر في كتابٍ قط؛ بل يُملي مِنْ حِفْظِه.
قال عبد الرزاق بن همَّام: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت ورأيت، فما رأت عيناي قط مثل وكيع.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع. فقيل له: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة ويحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم. سئل ابن المبارك: من رجل الكوفة اليوم؟ فقال: رجل المصرين -يعني الكوفة والبصرة- وكيع بن الجراح.
سئل أبو داود: أيهما أحفظ وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟ قال: وكيع أحفظ، وعبد الرحمن أتقن، وقد التقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتواقفا حتى سماع أذان الصبح. قال الحسين بن محمد: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنَّهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئًا انتعل ودخل. قال سلم بن جنادة: جالست وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بزق ولا مسَّ حصاة ولا جلس مجلسًا فتحرَّك، وما رأيته إلَّا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله.
قال مروان بن محمد: ما رأيت فيمن رأيت أخشع من وكيع، وما وُصِفَ لي أحدٌ قط إلَّا رأيته دون الصفة إلَّا وكيعًا، رأيته فوق ما وُصِفَ لي.
قال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلُّف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع فاستند، وحدَّث بسبعمائة حديثٍ حفظًا.
محنته
المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجراح محنةٌ غريبة، تورَّط فيها بمخالفته من حيث لا يدري للأصل الذي قرَّرناه في مقدِّمة الكلام، أَلَا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وإن كان لم يُرِدْ إلَّا الخير، وأصل هذه المحنة يرجع إلى السَّنَة التي حجَّ فيها وكيع بن الجراح، فلمَّا عَلِمَ الناس في مكة بمجيئه وهو حافظ العراق اجتمعوا عليه وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيع في تحديثهم، فلمَّا وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن أبي بكر الصديق أنَّه جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقبَّله، وقال: "بأبي أنت وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك"، ثم قال لعبد الله البهي: وكان ترك يومًا وليلةً حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه". وهذا الحديث قد حكم عليه بأنَّه منقطعٌ ومنكر، وعلَّته عبد الله البهي وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يُدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه.
فلمَّا سمعت قريش هذا الحديث هاجت وماجت، وظنَّ أهلها أنَّ الحديث ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع رجالات قريش عند واليها -وهو العثماني- وقرَّروا صلب وكيع بن الجراح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل: إنَّ الخليفة هارون الرشيد كان حاجًّا هذا العام، فلمَّا علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي روَّاد بقتله، واتَّهم وكيعًا بالنفاق والغشِّ للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ الإمام سفيان بن عيينة قال: لا قتل عليه، رجلٌ سمع حديثًا فرواه، فتركوا وكيعًا وخلوا سبيله.
خرج وكيع من مكَّة متجهًا إلى المدينة، وندم العثماني والي مكة على تركه بشدَّة، وقرَّر أن يقتل وكيعًا بأيِّ سبيل، فأرسل أهل مكَّة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتَّكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلمَّا عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزمِ المدينة على قتل وكيع، أرسل إليه بريدًا عاجلًا أن لا يأتي المدينة، ويُغيِّر مساره إلى طريق الربذة، فلمَّا وصل البريد إلى وكيع -وكان على مشارف المدينة- عاد إلى الكوفة.
بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحجِّ مرَّةً أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعض الجهَّال في حقه، واتَّهموه بالتشيُّع والرفض، لكنَّه تجاسر سنة 197هـ وحجَّ بيت الله الحرام فقدَّر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحجِّ مباشرة، فمات ودُفن بفيد على طريق الحج بين مكَّة والكوفة.
هذه المحنة التي تعرَّض لها وكيع بن الجراح، وكادت تُودي بحياته، وأثَّرت على سمعته، وأدَّت لمنعه من إتيان مكة والمدينة سنوات كثيرة، إنَّما حدثت بسبب زلَّة الإمام العالم نفسه، فما كان لوكيع بن الجراح أن يروي هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، والقائمون عليه معذورون، ولربَّما كانوا مأجورين؛ لأنَّهم تخيَّلوا من إشاعة هذا الخبر المردود انتقاصًا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كان وكيع يتأوَّل هذا الخبر قائلًا: إنَّ عدَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب قالوا: لم يمت رسول الله، فأراد الله أن يُريهم آية الموت.
ولو على فرض صحَّة الخبر فليس فيه قدحٌ بمقام النبوَّة، فعن التأمل فيه نجد أنَّ الحيَّ قد يربو جوفه وتسترخي مفاصله تحت تأثير الأمراض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوعك كرجلين من الناس، وكانت الشقيقة تأخذ رأسه فيمكث اليوم واليومين لا يخرج للناس من شدَّة الوجع، وكما جاء في الخبر الصحيح "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". والمحذور والممنوع في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء تغيُّر أجسادهم ورائحتهم وأكل الأرض لأجسادهم بعد موتهم؛ بل هم في أطيب ريحٍ من المسك، هو وسائر إخوانه الأنبياء أحياء في قبورهم.
وما سقناه من دفاعٍ في الاعتذار عن إمامٍ من أئمَّة المسلمين؛ إنَّما نقلناه بتصرُّفٍ من دفاع إمام الحجاز سفيان بن عيينة والحافظ الذهبي في سيره، وهذا لا يُغيِّر من حقيقةٍ ثابتةٍ يتعيَّن على كلِّ إمامٍ وداعيةٍ وعالمٍ أن يُراعيها عند احتكاكه مع الناس، وتصدِّيه للدعوة والإرشاد والإفتاء والتعليم، لذلك كره أهل العلم رواية الآثار والأحاديث التي تُؤدِّي إلى سوء فهمٍ، أو تكريس بدعةٍ عند أصحابها، فكرهوا رواية أحاديث الكبائر وسلب الإيمان عن مرتكبها عند الخوارج؛ لأنَّهم يفهمون الأحاديث على وجه الخطأ، ولا يعرفون مراد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيتَّخذون تلك الأحاديث ذريعةً ودليلًا على تكفيرهم للمسلمين، وكذا الأمر مع أحاديث الرجاء والمغفرة وفضل كلمة التوحيد عند المرجئة، والأمثلة على تلك القاعدة كثيرة، والعالم عندما لا يلتزم بتلك القاعدة، فإنَّه يجرُّ على نفسه وعلى غيره الكثير من المحن والبلايا.
التعليقات
إرسال تعليقك